لمتابعة أهم الأخبار أولاً بأول تابعوا قناتنا على تيليجرام ( فجر نيوز )

انضم الآن

عروسان لفظا أنفاسهما وغادرا الحياة بين فرحة لم تكتمل



تلفزيون الفجر الجديد- "قصة خبرية" إيمان فقها– إنها الحادية عشرة وبضع دقائق صباحاً في الثلاثين من شهر آب، كنت أستعدّ خلالها لكتابة تقرير صحفي، دقّ الهاتف، هي رنّات لرقم قادم من تركيا، حسناً لقد هاتفت صديقتي قبل ما يقارب الساعتين وحدّثتني بنبرة ملؤها الفرح "نازلة أأجل امتحاناتي، ورح أصير عروس يا إيمان"، نعم أنت الآن عروس جميلة بين طيّات السماء.

لقد غادرت روح ديما هذه الحياة، تلك الشابة العشرينيّة التي حلمت يوماً أن تكمل دراسة الطب البشريّ لترتدي الأبيض كفناً، إثر حادث سير أردى بجسدها بين ركن ضيق، غريب، هافت، مؤلم، قبل موعد عقد حفل زفافها بأسبوعين فقط.

لم تكن صدمة، لا بل إنها أكثر ممّا يسمّى ب "فاجعة"، وكيف لك أن تغمض عينيك، وأنت الآن وحيد لا شيء سوى ذاتك تحادثها؟، ولربّما تجول بينك وبينها خواطر عدة، وإن قسى عليك الزمن أكثر فمنعك من رؤية جثمانها الأخير، فكيف لروحك أن تنسى؟، هي كـ لظى وهاّج يشعل الحرارة حيناً وحيناً ولكن لم ينطفئ لحظة واحدة.

وفي بلدة زيتا شمال طولكرم من يوم الجمعة السادس من شهر تشرين الثاني احتفل بزفافه، ذاك الذي انتظره كثيراً، واستعدّ قبله بليلة فارتدى بدلة زفافه، بدلّها أكثر من مرّة، وحادث أشقاءه قائلاً "صوريني هيك، صوريني هيك"، التقط له صوراً عدة، ونام منتظراً يومه السعيد.

هو يوم وُصف ب "الأكثر من مميّز" حسب تعابير الحضور جميعهم، كان مفعماً بالفرح وكأن قلبه يراقص الفراشات سعادة وبهجة، ثم توّجه برفقة زوجته إلى مدينة رام الله ليكملا فرحة ذاك اليوم.

 عز الدين أبو حمدة، ذاك الشاب الأسمرانيّ الطويل، الذي زفّ عريساً بين تسعة وعشرين عاماً على هذه الدنيا، لم يُعرف عنه إلا السمعة الطيبة، والخلق الحسن، لكن لفظ أنفاسه الأخيرة وهو بين درع كامل من أقصى لحظات السعادة.

"يما ارض عني"

وفي يوم الأحد أي بعد حفل زفافه بيومين استعدّ لرحلة إلى ماليزيا يكمل بها تلك السعادة اللحظية، جهز رحلته برفقة الفتاة التي اختارها شريكة لدربه، ودّع أحبّته، وأنهى آخر حديث لوالدته قائلاً "يما ارضِ عنّي" ، تلك الجملة التي لم تغب عن فاهه منذ أن سطع النور من بين عينيه.

حيث غادر أبو حمدة الحياة وهو في رحلة لماليزيا لقضاء شهر العسل، وفي تفاصيل الحادثة كان يقضي يومه بالسير في إحدى منتجعات ماليزيا، ثم جلسا بجانب نهر لإحدى الجزر الماليزيّة، إلا أن مياه النهر سحبت فردة حذائه، فقام البحث عنها.

غاب فترة، فقامت زوجته بالمناداة عليه، لكن لم يجب، فظنّت أنه وجد مكاناً جميلاً، بقيت تصرخ وتصرخ حتى قدم أشخاص، وقاموا بمناداة الغطاسين والمنقذين، نزلوا أسفل إلى حفرة، وقاموا بإخراجه.

لم يتبقى في جسده نفس، لكن عروق يديه ما زالت تضج بهما الحياة، وفارق هذه الدنيا وهو في طريقه إلى إحدى مشافي ماليزيا.

هو اليوم الأخير الذي كان من المفترض أن يختتما به (شهر العسل) ليعودا إلى الأردن، ومن ثمّ فلسطين، إلا أنّ دقات الموت كانت أسرع.

 

"قلبي كان حاسسني"

 

"كان مهيّص يمّا وفرحان"،  بهذه الكلمات تحدثت والدة عز الدين أبو حمدة، تلك التي تقهر الحجر عزماً، وتقاسيم وجهها تخفي حزناً لا يظهر لك بتاتاً، وعيناها كجبل يحاول السقوط لكن اعتزم أن ينهض وينهض، كلما تعمقت بهما غصت بعالم يروي لك بشقّه الكثير من الصبر.  

 

عز الدين أكبر أشقائه، وله ست شقيقات وشقيقان، تعمل والدته في "الفلاحة"، لم يتوانى لحظة عن مدّ يد العون لها، درس تخصص الأتمتة الصناعية في جامعة فلسطين التقنية (خضوري) وتخرج بمرتبة الشرف، وعاد بعد ذلك ليعمل في مصنع سنيورة في بلدة العيزرية شمال القدس، ثمّ مرة أخرى عاد أدراجه ليدرس تخصّص الهندسة الكهربائية.

ويعمل أبو حمدة في الشركة الهندسية الالكتروميكانيكية (ملمكو) في بلدة بيتونيا جنوب غرب مدينة رام الله، هو الشاب النشيط، الأمين، الذكي، الدؤوب دوماً لتعلم المزيد، والذي حلم أن يتعلّم السباحة، ويتقن اللغة الإنجليزية لكن انشغاله الدائم بعمله، وعدم إيجاده وقت فراغ كان العائق أمامه.

حياة كـ لمح البصر

تروي والدة عز الدين ما حدث قبل ليلة من وصول الفاجعة "توّجهت إلى منزل ابنتي قبل ليلة من وفاته، وتنقلت بين العالم الافتراضي فشاهدت صوره عبر موقع الفيسبوك، كان جميلاً جميلاً، وجهه أبيض، وفرحاً كثيراً فقلت لابنتي (إنها الحياة تمر كلمح البصر)".

وفي يوم الحادثة كانت والدة أبو حمدة  تكمل عملها في الأرض، هاتفت والدة وفاء شقيق عز الدين لتخبره بما حدث، تريّث قليلاً، حاول استيعاب الموضوع ثم أخبر والدته بالفاجعة، "عزّ غادر الحياة، تركنا ورحل".

وداع أخير.. ونظرة يومية

مكثت زوجة أبو حمدة في ماليزيا حتى يوم الثلاثاء، ووصل الجثمان إلى بلدة زيتا يوم الخميس التاسع عشر من شهر تشرين الثاني ليزفّ عريساً إلى مثواه الأخير، وبدلاً من أن تقدم "المباركة" التي جهزّت إليها والدة عز الدين، حوّل البيت لاسقبال المعزيّين برحيل ذاك العريس. 

"رحت يخوي، رحت مع السلامة يخوي..لا اله إلا الله"، هي كلمات ردّدها شقيق عز الدين مُغرقاً عينيه بالدموع، مودعاً إياها بنظرات أخيرة.

أمّا والدة أبو حمدة فردّدت وكرّرت الدعاء له بقلب موقنٍ بصبر من عند الله سبحانه وتعالى. 

المنتجع غرق

وبعد رحيل جثمان أبو حمدة إلى فلسطين، غرق المنتجع الذي كان موجود به، وخلّف إصابات عدّة.

عزّ الدين رحل، وترك وراءه حديثاً طيباً عنه، وبُنيت مقبرته بمحاذاة نافذة المنزل، لعلها نظرة صباحيّة تقول "صباح الخير لك يا عزّ، إن الفطور بانتظارك، ها نحن اشتقنا إليك، أو وداع مسائي يقول "عمت مساء يا شقيق الدرب، وداعاً يا فلذة الروح".

عزّ الدين زفّ عريساً وهو بأقصى درجات السعادة إلى السماء، وديما غادرت الحياة بين طيات خيالات انتظرتها كثيراً ولم تتحقق فكانت عروساً لا زالت تذكر بين أذهان كلّ محب لها.

هي قصص عدّة والمغزى واحد "افرح قدر استطاعتك يومياً فلا تعلم متى سيحين موعد مغادرتك هذه الحياة؟!، واترك بين ثنايا هذه الدنيا كلّ جميل، ودّعها بطيب ذكر، وحسن أخلاق".

الرابط المختصر: